الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولا يخفى عليك أن كونها للدعاء على الوجه الأخير في الآية غير ظاهر وعلى الوجه الأول لا يخلو عن خفاء فلعل من جعلها للدعاء حمل بما أنعمت عليّ على الاستعطاف وعلق الجار والمجرور بنحو اعصمني وجعل الفاء تفسيرية ولن أكون الخ تفسيرًا لذلك المحذوف كما قيل: في قوله تعالى: {استجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا} [الأنبياء: 84] فليتدبر، واحتج أهل العلم بهذه الآية على المنع من معونة الظلمة وخدمتهم.أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبيد الله بن الوليد الرصافي أنه سأل عطاء بن أبي رباح عن أخل له كاتب فقال له: إن أخي ليس له من أمور السلطان شيء إلا أنه يكتب له بقلم ما يدخل وما يخرج فإن ترك قلمه صار عليه دين واحتاج وإن أخذ به كان له فيه غنى قال: لمن يكتب؟ قال: لخالد بن عبد الله القسري قال: ألم تسمع إلى ما قال العبد الصالح: {رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لّلْمُجْرِمِينَ} فلا يهتم أخوك بشيء وليرم بقلمه فإن الله تعالى سيأتيه برزق، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حنظلة جابر بن حنظلة الضبي الكاتب قال: قال رجل لعامر يا أبا عمرو إني رجل كاتب أكتب ما يدخل وما يخرج آخذ رزقًا أستغني به أنا وعيالي قال: فلعلك تكتب في دم يسفك قال: لا قال: فلعلك تكتب في مال يؤخذ قال: لا قال: فلعلك تكتب في دار تهدم قال: لا قال: أسمعت بما قال موسى عليه السلام: {رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لّلْمُجْرِمِينَ} قال: أبلغت إلى أيا أبا عمرو والله عز وجل لا أخط لهم بقلم أبدًا قال والله تعالى لا يدعك الله سبحانه بغير رزق أبدًا.وقد كان السلف يجتنبون كل الاجتناب عن خدمتهم، أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سلمة بن نبيط قال بعث عبد الرحم بن مسلم إلى الضحاك فقال: اذهب بعطاء أهل بخارى فأعطهم فقال أعفني فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه فقال له بعض أصحابه: ما عليك أن تذهب فتعطيهم وأنت لا ترزؤهم شيئًا فقال لا أحب أن أعين الظلمة في شيء من أمرهم وإذا صح حديث ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلمًا فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى بهم في جهنم فليبك من علم أنه من أعوانهم على نفسه وليقلع عما هو عليه قبل حلول رمسه، ومما يقصم الظهر ما روي عن بعض الأكابر أن خياطًا سأله فقال: أنا ممن يخيط للظلمة فهل أعد من أعوانهم؟ فقال: لا.أنت منهم والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم فلا حول ولا قوة إلا بائا تعالى العلي العظيم، ويا حسرتا على من باع دينه بدنياه واشترى رضا الظلمة بغضب مولاه.هذا وقد بلغ السيل الزبى وجرى الوادي فطم على القرى.{فَأَصْبَحَ في المدينة خَائِفًا} وقوع المكروه به {يَتَرَقَّبُ} يترصد ذلك أو الأخبار هل وقفوا على ما كان منه وكان عليه السلام فيما يروى قد دفن القبطي بعد أن مات في الرمل، وقيل: خائفًا وقوع المكروه من فرعون يترقب نصرة ربه عز وجل، وقيل: يترقب أن يسلمه قومه، وقيل: برتقب هداية قومه، وقيل: خائفًا عن ربع عز وجل يترقب المغفرة، والكل كما ترى، والمتبادر على ما قيل: أن في المدينة متعلق بأصبح واسم أصبح ضمير موسى عليه السلام وخائفًا خبرها وجملة يترقب خبر بعد خبر أو حال من المضير في خائفًا.وقال أبو البقاء: يترقب حال مبتدلة من الحال الأولى أو تأكيد لها أو حال من الضمير في خائفًا. اهـ.وفيه احتمال كون أصبح تامة واحتمال كونها ناقصة والخبر في المدينة ولا يخفى عليك ما هو الأولى من ذلك {فَإِذَا الذي استنصره بالامس} وهو الإسرائيلي الذي قتل عليه السلام القبطي بسببه {يَسْتَصْرِخُهُ} أي يستغيثه من قبطي آخر برفع الصوت من الصراخ وهو في الأصل الصياح ثم تجوز به عن الاستغاثة لعدم خلوها منه غالبًا وشاع حتى صار حقيقة عرفية، وقيل: معنى يستصرخه يطلب إزالة صراخه، وإذا للمفاجأة وما بعدها مبتدأ وجملة يستصرخه الخبر.وجوز أبو البقاء كون الجملة حالًا والخبر إذا، والمراد بالأمس اليوم الذي قبل يوم الاستصراخ، وفي الحواشي الشهابية إن كان دخوله عليه السلام المدينة بين العشاءين فالأمس مجاز عن قرب الزمان وهو معرب لدخول أل عليه وذلك الشائع فيه عند دخولها، وقد بنى معها على سبيل الندرة كما في قوله: {قَالَ} أي موسى عليه السلام {لَهُ موسى} أي للإسرائيلي الذي يستصرخه {إِنَّكَ لَغَوِىٌّ} ضال {مُّبِينٌ} بين الغواية لأنك تسببت لقتل رجل وتقاتل آخر أو لأن عادتك الجدال، وأختار هذا بعض الأجلة وقال: إن الأول لا يناسب قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ} الخ لأن تذكر تسببه لما ذكر باعث الأحجام لا الاقدام.ورد بأن التذكر أمر محقق لقوله تعالى: {خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} والباعث له على ما ذكر شفقته على من ظلم من قومه وغيرته لنصرة الحق، وقيل: إن الضمير في له والخطاب في إنك للقبطي، ودل عليه قوله: {يَسْتَصْرِخُهُ} وهو خلاف الظاهر، ويبعده الإظهار في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا}.فإن الظاهر على ذاك به بدل الذي؛ والبطس الأخذ بصولة وسطوة، والتنوين في عدو للتفخيم أي عدو عظيم العداوة ولإرادة ذلك لم يضفه، والمراد بالذي هو عدو لهما القبطي، وقد كان القبط أعظم الناس عداوة لنبي إسرائيل وقيل: عداوته لهما لأنه لم يكن على دينهما، وقرأ الحسن وأبو جعفر {يَبْطِشَ} بضم الطاء.{قَالَ يَاءادَمُ موسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بالامس} قاله الإسرائيل الذي يستصرخه على ما روي عن ابن عباس وأكثر المفسرين وكأنه توهم إرادة البطش به دون القبطي من تسمية موسى عليه السلام إياه غويا، وقال الحسن: قاله القبطي الذي هو عدو لهما كأنه توهم من قوله للإسرائيلي {إنك لغوى} [القصص: 18] أنه الذي قتل القبطي بالأمس له ولا بعد فيه لأن ما ذكر إما إجمال لكلام يفهم منه ذلك أو لأن قوله ذلك لمظلوم انتصر به خلاف الظاهر فلا بعد للانتقال منه لذلك، والذي في التوراة التي بأيدي اليهود اليوم ما هو صريح في أن هذين الرجلين كانا من بني إسرائيل، وأما الرجلان اللذان رآهما بالأمس فأحدهما إسرائيلي والآخر مصري، ووجه أمر العداوة على ذلك بأن هذا الذي أراد عليه السلام أن يبطش به كان ظالمًا لمن استصرخه فيكون عدوًا له وعاصيًا لله تعالى فيكون عدوًا لموسى عليه السلام، ويحتمل أن تكون عداوته لهما لكونه مخالفًا لما هما عليه من الدين وإن كان إسرائيليًا وفيها أيضًا ما هو صريح في أن الظالم هو قائل ذلك.وأنت تعلم أن هذه التوراة لا يلتفت إليهما فيما يكذب القرآن أو السنة الصحيحة وهي فيما عدا ذلك كسائر أخبار بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب.نعم قد يستأنس بها لبعض الأمور ثم إن ما فيها من قصة موسى عليه السلام مخالف لما قصه الله تعالى منها هنا، وفي سائر المواضع زيادة ونقصًا وهو ظاهر لمن وقف عليها، ولا يخفى الحكم في ذلك، وقد خلت هنا عن ذكر مجيء مؤمن آل فرعون ونصحه لموسى عليه السلام وكذا عن ذكر ما يدل على قوله: {إِن تُرِيدُ} أي ما تريد {إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا في الأرض} وهو الذي يفعل كل ما يريد من الضرب والقتل ولا ينظر في العواقب، وقيل: المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله تعالى وأصله على ما قيل: النخلة الطويلة فاستعير لما ذكر إما باعتبار تعاليه المعنوي أو تعظمه.وأخرج ابن المنذر عن الشعبي أنه قال: من قتل رجلين أي بغير حق فهو جبار، ثم تلا هذه الآية، وأخرج ابن أبي حاتم نحوه عن عكرمة {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن. اهـ.
|